الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الرّجوع في اللّغة: الانصراف، يقال: رجع يرجع رجعاً ورجوعاً ورجعيّ ومرجعاً: إذا انصرف، ورجّعه: ردّه، والرّجعة: مراجعة الرّجل أهله. ورجع من سفره، وعن الأمر يرجع رجعاً ورجوعاً، قال ابن السّكّيت: هو نقيض الذّهاب، ويتعدّى بنفسه في اللّغة الفصحى، وبها جاء القرآن قال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ}. وهذيل تعدّيه بالألف، ورجعت الكلام وغيره: رددته، ورجع في الشّيء: عاد فيه، ومن هنا قيل: رجع في هبته إذا أعادها إلى ملكه. وفي الكلّيّات: الرّجوع: العود إلى ما كان عليه مكاناً أو صفةً، أو حالاً، يقال: رجع إلى مكانه، وإلى حالة الفقر أو الغنى، ورجع إلى الصّحّة أو المرض، أو غيره من الصّفات، ورجع عوده على بدئه، أي رجع في الطّريق الّذي جاء منه، ورجع عن الشّيء تركه، ورجع إليه: أقبل. ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ.
أ - الرّدّ: 2 - الرّدّ صرف الشّيء ورجعه، وردّ عليه الشّيء إذا لم يقبله، وكذا إذا خطّأه، ورددت إليه جوابه، أي رجعت وأرسلت، ومنه: رددت عليه الوديعة، وتردّدت إلى فلانٍ: رجعت إليه مرّةً بعد أخرى، وترادّ القوم البيع: ردّوه. والفقهاء أحياناً يستعملون الرّدّ والرّجوع بمعنًى واحدٍ. قال المحلّيّ في شرح المنهاج: لكلٍّ من المستعير والمعير ردّ العاريّة متى شاء، وردّ المعير بمعنى رجوعه. ويقول الفقهاء في الوصيّة: يكون الرّجوع في الوصيّة بالقول كرجعت في وصيّتي، أو أبطلتها ونحوه كرددتها. وقد يختصّ الرّجوع بمن يصدر منه التّصرّف كالرّجوع في الهبة والوصيّة، والرّجوع عن الإقرار والشّهادة، ويستعمل الرّدّ فيمن صدر التّصرّف لصالحه كردّ المستعير للعاريّة، وردّ الموصى له الوصيّة، أو من طرفٍ ثالثٍ كردّ القاضي الشّهادة. ب - الفسخ: 3 - الفسخ: النّقض، يقال فسخ الشّيء يفسخه فسخاً فانفسخ: أي نقضه فانتقض، وفسخ رأيه: فسد، ويقال: فسخت البيع والنّكاح فانفسخ، أي نقضته فانتقض، وفسخت العقد فسخاً رفعته، وفسخت الشّيء فرّقته. والفقهاء يستعملون الفسخ بمعنى الرّجوع، قال الكاسانيّ: الرّجوع: فسخ العقد بعد تمامه. وفي المنثور للزّركشيّ: الفسخ لفظ ألّفه الفقهاء، ومعناه ردّ الشّيء واسترداد مقابله. ج - النّقض: 4 - النّقض: إفساد ما أبرمت من عقدٍ أو بناءٍ، والنّقض: انتثار العقد من البناء والحبل والعقد، وهو ضدّ الإبرام، يقال: نقضت البناء والحبل والعقد، وفي حديث صوم التّطوّع: »فناقضني وناقضته «، أي ينقض قولي وأنقض قوله، وأراد به المراجعة والمرادّة. ويقول الفقهاء: يحصل الرّجوع عن الوصيّة بالقول كنقضت الوصيّة.
5 - الرّجوع من التّصرّفات الّتي تختلف أحكامها باختلاف موضوعها، ولذلك يعتري الرّجوع الأحكام التّكليفيّة. فقد يكون واجباً كالرّجوع إلى الكتاب والسّنّة عند التّنازع، وكرجوع المرتدّ إلى الإسلام، ورجوع البغاة إلى طاعة الإمام. وقد يكون مستحبّاً كاستحباب تعجيل رجوع المسافر إلى أهله بعد قضاء حاجته. وكرجوع المتبايعين بالتّراضي بعد تمام العقد، وهو ما يسمّى بالإقالة لقوله صلى الله عليه وسلم: » من أقال مسلماً أقاله اللّه عثرته يوم القيامة «. وقد يكون مباحاً وذلك كالرّجوع في العقود الجائزة كالوصيّة. وقد يكون حراماً كالرّجوع في الصّدقة، وقد قال عمر رضي الله عنه: من وهب هبةً على وجه صدقةٍ فإنّه لا يرجع فيها. وكالرّجوع عن دين الإسلام، فمن كان مسلماً، أو كافراً وأسلم حرّم عليه الرّجوع عن دين الإسلام، لأنّه يصبح بذلك مرتدّاً. وقد يكون الرّجوع مكروهاً كالرّجوع في الهبة عند الحنفيّة. جاء في الاختيار: يكره الرّجوع في الهبة، لأنّه من باب الخساسة والدّناءة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: » العائد في هبته كالكلب يقيء ثمّ يعود في قيئه «. شبّهه به لخساسة الفعل ودناءة الفاعل.
6 - الرّجوع قد يكون في التّصرّفات القوليّة كالقضاء، والإقرار، والشّهادة، والوصيّة، والهبة، والكفالة وغير ذلك. وقد يكون في الأفعال كرجوع من تجاوز الميقات دون إحرامٍ إلى الميقات ليحرم منه، وكرجوع المسافرة الّتي طرأ عليها موجب العدّة إلى مسكنها لتعتدّ فيه. وتختلف أسباب الرّجوع في كلّ ذلك وتتعدّد باختلاف المواضع والمسائل، وبيان ذلك فيما يلي: 1 - الرّجوع في الحكم والفتوى: للرّجوع في الحكم والفتوى أسباب منها: أ - خفاء الدّليل: 7 - الأصل في الحكم والفتوى هو أن يكون المرجع فيهما إلى كتاب اللّه تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع، وإلاّ فالقياس والاجتهاد إن لم يوجد نصّ ظاهر. ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. وقد بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: » كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال: أقضي بكتاب اللّه، قال: فإن لم تجد في كتاب اللّه ؟ قال: فبسنّة رسول اللّه، قال: فإن لم تجد في سنّة رسول اللّه ولا في كتاب اللّه ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد للّه الّذي وفّق رسولَ رسولِ اللّه لما يرضي رسولَ اللّه «. ولذلك لا ينقض قضاء القاضي إلاّ إذا خالف نصّاً ظاهراً من كتابٍ أو سنّةٍ، أو خالف إجماعاً، أو خالف قياساً جليّاً، كما يقول بعض الفقهاء. لكن قد يكون الحكم مخالفاً للنّصّ لخفاء الدّليل، وقد تكون الفتوى كذلك، فإذا ظهر الحقّ ووجد الدّليل وجب الرّجوع إليه. ومن أمثلة ذلك أنّه خفي على عمر رضي الله عنه دية الأصابع فقضى في الإبهام والّتي تليها بخمسٍ وعشرين حتّى أخبر أنّ في كتاب آل عمرو بن حزمٍ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشر عشرٍ فترك قوله ورجع إليه. ب - استظهار المجتهد رأي مجتهدٍ آخر: 8 - الاختلاف بين المجتهدين في مسألةٍ يوجب على أحدهما الرّجوع إلى رأي من ظهر الحقّ في جانبه، فقد عارض عمر أبا بكرٍ رضي الله تعالى عنهما في قتال مانعي الزّكاة بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأنّهم في نظر عمر رضي الله عنه يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: » أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه فمن قال لا إله إلاّ اللّه فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه«، فقال أبو بكرٍ: واللّه لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة، فإنّ الزّكاة حقّ المال، واللّه لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونها إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطّاب: فواللّه ما هو إلاّ أن قد رأيت اللّه قد شرح صدر أبي بكرٍ للقتال فعرفت أنّه الحقّ. قال النّوويّ والأبيّ في شرحهما للحديث: هذا يدلّ على اجتهاد الأئمّة في النّوازل وردّها إلى الأصول، ومناظرة أهل العلم فيها، ورجوع من ظهر له الحقّ إلى قول صاحبه. ج - اقتضاء المصلحة: 9 - قد يكون الرّجوع من أجل المصلحة، ومن ذلك أنّ النّبيّ نزل منزلاً للحرب في بدرٍ فقيل له: إن كان بوحيٍ فسمعاً وطاعةً، وإن كان باجتهادٍ ورأيٍ فهو منزل مكيدةٍ، فقال صلى الله عليه وسلم: بل باجتهادٍ ورأيٍ، فأشير عليه بمكانٍ آخر فيه مصلحة المسلمين ففعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ورجع إلى رأي الحباب بن المنذر. قال ابن إسحاق في السّيرة: حدّثت عن رجالٍ من بني سلمة، أنّهم ذكروا: أنّ الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخّر عنه، أم هو الرّأي والحرب والمكيدة، قال بل هو الرّأي والحرب والمكيدة ؟ فقال يا رسول اللّه: فإنّ هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالنّاس حتّى نأتي أدنى ماءٍ من القوم، فننزله، ثمّ نغوّر ما وراءه من القلب، ثمّ نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثمّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرّأي. فنهض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن معه من النّاس، فسار حتّى إذا أتى أدنى ماءٍ من القوم نزل عليه، ثمّ أمر بالقلب فغوّرت، وبنى حوضاً على القليب الّذي نزل عليه، فملئ ماءً، ثمّ قذفوا فيه الآنية. ومن ذلك حديث الأزواد الّذي رواه مسلم » حين نفذت أزواد القوم حتّى همّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بنحر بعض حمائلهم، فأشار عليه عمر رضي الله عنه أن يجمع ما بقي من أزواد القوم فيدعو عليها ففعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك حتّى ملأ القوم أزودتهم «. قال العلماء: لا خلاف أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم له أن يجتهد في أمور الدّنيا ويرجع إلى رأي غيره في ذلك، كما فعل في تلقيح النّخل، والنّزول ببدرٍ، ومصالحة أهل الأحزاب. وكذلك فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين أرسل أبا هريرة رضي الله عنه بنعليه وقال له: » من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلاّ اللّه مستيقناً بها قلبه فبشّره بالجنّة فقال له عمر رضي الله عنه: لا تفعل فإنّي أخشى أن يتّكل النّاس عليها، فخلّهم يعملون. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: فخلّهم «. د - تغيّر اجتهاد القاضي: 10 - من أسباب الرّجوع أيضاً تغيّر الاجتهاد، فالمجتهد الّذي يتغيّر اجتهاده إلى رأيٍ يخالف رأيه الأوّل يجب عليه الرّجوع عن اجتهاده الأوّل والعمل بما تغيّر إليه اجتهاده، والأصل في ذلك كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ وقد جاء فيه: ولا يمنعنّك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقّ، فإنّ الحقّ قديم ولا يبطله شيء، ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل. قال ابن القيّم: يريد أنّك إذا اجتهدت في حكومةٍ ثمّ وقعت لك مرّةً أخرى فلا يمنعك الاجتهاد الأوّل من إعادته، فإنّ الاجتهاد قد يتغيّر، ولا يكون الاجتهاد الأوّل مانعاً من العمل بالثّاني إذا ظهر أنّه الحقّ، فإنّ الحقّ أولى بالإيثار، لأنّه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأوّل قد سبق الثّاني، والثّاني هو الحقّ فهو أسبق من الاجتهاد الأوّل، لأنّه قديم سابق على ما سواه، ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأوّل على خلافه، بل الرّجوع إليه أولى من التّمادي على الاجتهاد الأوّل. 11 - على أنّ تغيّر الاجتهاد وإن كان يوجب الرّجوع إلى ما تغيّر إليه اجتهاده لكن ذلك لا يبطل الاجتهاد الأوّل إذا صدر به حكم. وهذا في الحوادث الّتي هي محلّ الاجتهاد، قال جمهور الفقهاء: المجتهد إذا قضى في حادثةٍ برأيه - وهي محلّ الاجتهاد - ثمّ رفعت إليه ثانياً فتحوّل رأيه يعمل بالرّأي الثّاني، ولا يوجب هذا نقض الحكم بالرّأي الأوّل، لأنّ القضاء بالرّأي الأوّل قضاء مجمع على جوازه لاتّفاق أهل الاجتهاد على أنّ للقاضي أن يقضي في محلّ الاجتهاد بما يؤدّي إليه اجتهاده، فكان هذا قضاءً متّفقاً على صحّته، ولا اتّفاق على صحّة هذا الرّأي الثّاني، فلا يجوز نقض المجمع عليه بالمختلف فيه، ولهذا لا يجوز لقاضٍ آخر أن يبطل هذا القضاء، كذا هذا. وقد روي أنّ عمر رضي الله عنه قضى في المشَرّكة بإسقاط الإخوة من الأبوين وتوريث الإخوة لأمٍّ، ثمّ شرّك بين الفريقين بعد، ولمّا سئل قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي، فأخذ عمر رضي الله عنه في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنّه الحقّ، ولم يمنعه القضاء الأوّل من الرّجوع إلى الثّاني، ولم ينقض الأوّل بالثّاني، فجرى أئمّة الإسلام بعده على هذين الأصلين. واختلف المالكيّة في جواز رجوع القاضي عمّا قضى به إذا تغيّر اجتهاده. قال ابن حبيبٍ: أخبرني مطرّف وابن الماجشون عن مالكٍ وعن غيره من علماء المدينة في القاضي يقضي بالقضاء ثمّ يرى ما هو أحسن منه فيريد الرّجوع عنه إلى ما رأى، فذلك له ما كان على ولايته الّتي فيها قضى بذلك القضاء الّذي يريد الرّجوع عنه، وقال ابن عبد الحكم وسحنون وابن الماجشون: لا يجوز فسخه، وصوّبه أئمّة المتأخّرين قياساً على حكم غيره، ولأنّه لو كان له نقض هذا لرأيه الثّاني لكان له فسخ الثّاني والثّالث ولا يقف على حدٍّ، ولا يثق أحد بما قضي له به وذلك ضرر شديد، وقيل: إن كان القضاء بمالٍ فسخه، وإن كان ثبوت نكاحٍ أو فسخه لم ينقضه. قال ابن راشدٍ القفصيّ: والمشهور جواز الرّجوع وهو الصّواب، لأنّه رجوع إلى الصّواب. لكن ابن عبد الحكم ذكر أنّ الخلاف إنّما هو إذا حكم بذلك وهو يراه باجتهاده، أمّا إن قضى بذلك ذاهلاً أو ناسياً أو جاهلاً فلا ينبغي الخلاف أنّه يجب عليه الرّجوع عنه إلى ما رأى إذ قد تبيّن له الخطأ. وما ذهب إليه بعض المالكيّة قال به أبو ثورٍ وداود استناداً إلى ما جاء في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما. هـ – تغيّر اجتهاد المفتي: 12 – من أسباب الرّجوع كذلك تغيّر اجتهاد المفتي، فإذا أفتى المجتهد برأيٍ ثمّ تغيّر اجتهاده وجب عليه الرّجوع عن رأيه الأوّل والإفتاء بما أدّاه إليه اجتهاده ثانياً. وقد كان لأئمّة المذاهب أقوال رجعوا عنها لمّا تغيّر اجتهادهم وصارت لهم أقوال أخرى هي الّتي تغيّر إليها اجتهادهم. ففي حاشية ابن عابدين أنّ أبا حنيفة رجع عن القول بأنّ الصّدقة أفضل من حجّ التّطوّع لمّا حجّ وعرف مشقّته. وقد كان لمالكٍ أقوال ثمّ رجع عنها نقلها عنه ابن القاسم وغيره، ونظراً لأنّ ابن القاسم لازم مالكاً كثيراً وكان لا يغيب عن مجلسه إلاّ لعذرٍ فقد قالوا: من قلّد مالكاً فإنّما يأخذ بالقول المرجوع إليه عند ابن القاسم، لأنّه يغلب على الظّنّ أنّه الرّاجح لمصير مالكٍ إليه آخراً مع ذكره القول الأوّل. كذلك كان للشّافعيّ مذهبان أو قولان وهما القديم والجديد، يقول النّوويّ: صنّف الشّافعيّ في العراق كتابه القديم، ويسمّى كتاب الحجّة، ويرويه عنه أربعة من جلّة أصحابه وهم أحمد بن حنبلٍ، وأبو ثورٍ، والزّعفرانيّ، والكرابيسيّ، ثمّ خرج إلى مصر وصنّف كتبه الجديدة كلّها بمصر. ثمّ يقول النّوويّ: كلّ مسألةٍ فيها قولان للشّافعيّ قديم وجديد، فالجديد هو الصّحيح وعليه العمل، لأنّ القديم مرجوع عنه، ثمّ ذكر النّوويّ بعض المسائل المستثناة والّتي يفتى فيها بالقديم. وقال إمام الحرمين: معتقدي أنّ الأقوال القديمة ليست من مذهب الشّافعيّ حيث كانت، لأنّه جزم في الجديد بخلافها، والمرجوع عنه ليس مذهباً للرّاجع. 13 - على أنّ أتباع الأئمّة قد يفتون بالأقوال القديمة الّتي رجع عنها أئمّة المذاهب لرجاحتها في نظرهم. يقول النّوويّ: إذا علمت حال القديم ووجدنا أصحابنا أفتوا بالمسائل الّتي فيه حملنا ذلك على أنّه أدّاهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله وهم مجتهدون فأفتوا به، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشّافعيّ، ولم يقل أحد من المتقدّمين في هذه المسائل إنّها مذهب الشّافعيّ. ويقول ابن القيّم: أتباع الأئمّة يفتون كثيراً بأقوالهم القديمة الّتي رجعوا عنها، وهذا موجود في سائر الطّوائف. فالحنفيّة يفتون بلزوم المنذورات الّتي مخرجها مخرج اليمين كالحجّ والصّوم والصّدقة، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنّه رجع قبل موته بثلاثة أيّامٍ إلى التّكفير، والحنابلة يفتي كثير منهم بوقوع طلاق السّكران، وقد صرّح أحمد بالرّجوع عنه إلى عدم الوقوع، والشّافعيّة يفتون بالقول القديم في مسألة التّثويب، وامتداد وقت المغرب، ومسألة التّباعد عن النّجاسة في الماء الكثير، وغير ذلك من المسائل، ومن المعلوم أنّ القول الّذي صرّح بالرّجوع عنه لم يبق مذهباً له، فإذا أفتى المفتي به مع نصّه على خلافه لرجحانه عنده لم يخرجه ذلك عن التّمذهب بمذهبه. وقال ابن القيّم: الصّواب إذا ترجّح - عند المنتسب إلى مذهبٍ - قول غير قول إمامه بدليلٍ راجحٍ فلا بدّ أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإنّ الأئمّة متّفقة على أصول الأحكام، ومتى قال بعضهم قولاً مرجوحاً فأصوله تردّه وتقتضي القول الرّاجح. وقال النّوويّ: قال أبو عمرٍو: اختيار أحد أتباع مذهب الشّافعيّ للقديم إنّما هو من قبيل اختياره مذهب غير الشّافعيّ إذا أدّاه اجتهاده إليه. 2 - الرّجوع في العقود: أ - الرّجوع في العقود غير اللاّزمة: 14 - العقود الجائزة " غير اللاّزمة كالعاريّة، والوصيّة، والشّركة، والمضاربة، والوكالة، الوديعة، عقود غير لازمةٍ، وعدم لزومها يبيح الرّجوع فيها إذا توافرت الشّروط المعتبرة الّتي حدّدها الفقهاء كشرط نضوض رأس المال في المضاربة، وشرط علم الطّرف الآخر بالفسخ، وشرط عدم الضّرر في الرّجوع، فمن استعار أرضاً للزّراعة، وأراد المعير الرّجوع، فإنّ الرّجوع الفعليّ يتوقّف حتّى يحصد الزّرع، ومن أعار مكاناً لدفنٍ، وحصل الدّفن فعلاً فلا يرجع المعير في موضعه حتّى يندرس أثر المدفون، كما أنّ العاريّة المقيّدة بأجلٍ أو عملٍ عند المالكيّة لا رجوع فيها حتّى ينقضي الأجل أو العمل. ب - العقود الّتي يدخلها الخيار: 15 - العقود الّتي من طبيعتها اللّزوم كالبيع، يكون لزومها بتمام الإيجاب والقبول، ما لم يلحقها الخيار فإذا لحقها الخيار صارت عقوداً غير لازمةٍ في حقّ من له الخيار، فيجوز له الرّجوع فيها. انظر مصطلح: (خيار). 3 - الرّجوع بالإقالة: 16 - الإقالة - سواء اعتبرت فسخاً أو بيعاً - تعتبر رجوعاً في العقد برضا المتعاقدين فهي من التّصرّفات الجائزة بل المندوبة لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » من أقال مسلماً أقاله اللّه عثرته « والقصد منها ردّ كلّ حقٍّ إلى صاحبه، ففي البيع مثلاً يعود - بمقتضاها- المبيع إلى البائع، والثّمن إلى المشتري، وفي الجملة فإنّه لا تجوز الزّيادة على الثّمن الأوّل أو نقصه أو ردّ غير جنسه، لأنّ مقتضى الإقالة ردّ الأمر إلى ما كان عليه، ورجوع كلٍّ منهما إلى ما كان له. وينظر تفصيل ذلك في (إقالة) 4 - الرّجوع بسبب الإفلاس: 17 - الإفلاس من أسباب الرّجوع، ذلك أنّ حقّ الغرماء يتعلّق بمال المدين، فإذا حجر عليه وكان قد اشترى شيئاً وقبضه ولم يدفع ثمنه ووجده بعينه قائماً، فللبائع الرّجوع في عين ماله، ويكون أحقّ به من سائر الغرماء، ولا يسقط حقّه بقبض المشتري للمبيع، وذلك لحديث أبي هريرة » أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا ابتاع الرّجل السّلعة ثمّ أفلس وهي عنده بعينها فهو أحقّ بها من الغرماء « وهذا عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - هذا مع مراعاة شروط الرّجوع الّتي حدّدها الفقهاء ككون السّلعة باقيةً في ملك المشتري، ولم تتغيّر صورتها كالحنطة إذا طحنت، ولم يتعلّق بها حقّ كرهنٍ، وأن يكون الرّجوع في عين ماله في المعاوضات المحضة، كالبيع والقرض والسّلم، خلافاً للمعاوضة غير المحضة، كالخلع والصّلح عن دم العمد، فلا يجوز الرّجوع فيها، وذلك كما يقول المالكيّة والشّافعيّة. وعند الحنفيّة: لا يكون البائع أحقّ بعين ماله الّذي وجده عند المفلس، وإنّما يكون أسوة الغرماء فيباع ويقسم ثمنه بالحصص، لأنّ ملك البائع قد زال عن المبيع وخرج من ضمانه إلى ملك المشتري وضمانه، فساوى باقي الغرماء في سبب الاستحقاق، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » أيّما رجلٍ باع سلعته بعينها عند رجلٍ وقد أفلس ولم يكن قبض من ثمنها شيئًا فهي له، وإن كان قبض من ثمنها شيئًا فهو أسوة للغرماء «. وهذا إذا كان المشتري قد قبض المبيع بإذن البائع، فإن كان قبضه بغير إذنه كان له حقّ الرّجوع فيه، وحملوا الحديث الّذي استدلّ به الجمهور على القبض بغير إذنٍ. وفي الموضوع تفصيلات كثيرة يرجع إليها في مصطلح (إفلاس من الموسوعة ج 5 /310). الرّجوع بسبب الموت: 18 - من مات وعليه ديون تعلّقت الدّيون بماله، وإذا مات مفلساً قبل تأدية ثمن ما اشتراه وقبضه ووجد البائع عين ماله في التّركة، فقال الشّافعيّة: يكون البائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثّمن، وبين أن يفسخ ويرجع في عين ماله، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه « فإن كانت التّركة تفي بالدّين ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيدٍ الإصطخريّ له أن يرجع في عين ماله للحديث السّابق، والثّاني: لا يجوز أن يرجع في عين ماله، وهو المذهب، لأنّ المال يفي بالدّين فلم يجز الرّجوع في المبيع كالحيّ المليء. وعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ليس للبائع الرّجوع في عين ماله، بل يكون أسوة الغرماء لحديث أبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث بن هشامٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: » أيّما رجلٍ باع متاعاً فأفلس الّذي ابتاعه منه ولم يقبض الّذي باعه من ثمنه شيئاً فوجده بعينه فهو أحقّ به، وإن مات الّذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء « ولأنّ الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة فأشبه ما لو باعه. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح: (تركة). 6 - الرّجوع بسبب الاستحقاق: 19 - الاستحقاق - بمعناه الأعمّ - ظهور كون الشّيء حقّاً واجباً للغير، والاستحقاق يرد في الغصب والسّرقة، فالمغصوب منه والمسروق منه يثبت لهما حقّ الرّجوع على الغاصب والسّارق ويجب على الغاصب والسّارق ردّ المغصوب والمسروق لربّه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «. ويشمل كذلك استحقاق المبيع على المشتري، أو الموهوب على المتّهب، فيتبيّن فساد العقد في الأصحّ عند الشّافعيّة والحنابلة، ويتوقّف نفاذ العقد على الإجازة عند الحنفيّة والمالكيّة، ويثبت للمشتري في الجملة حقّ الرّجوع بالثّمن على البائع على تفصيلٍ بين ما إذا كان ثبوت الاستحقاق بالبيّنة أو بالإقرار. وتفصيل ذلك في مصطلح: (استحقاق). 7 - الرّجوع بسبب الأداء ووجود الإذن: 20 - أداء الدّين بإذن المدين في الأداء أو في الضّمان من أسباب الرّجوع على المدين، فمن أذن لغيره بضمان ما عليه من دينٍ أو أذن له بأدائه فأدّاه قاصداً الرّجوع به ثبت له حقّ الرّجوع على المدين، وهذا باتّفاقٍ بين المذاهب، مع مراعاة توافر شروط صحّة الضّمان المعتبرة في كلّ مذهبٍ، ككون الضّامن أهلاً للتّبرّع، وككون الدّين ثابتاً عند الضّمان، وكونه معلوماً عند من لا يجيز ضمان المجهول، وكأن يضيف المضمون الضّمان إلى نفسه بأن يقول: اضمن عنّي. كما يقول الحنفيّة، وغير ذلك من الشّروط والاستثناءات. لكن الفقهاء يختلفون في ثبوت حقّ الرّجوع وعدمه عند ضمان الدّين وأدائه دون إذن المدين في الضّمان أو في الأداء. فعند الحنفيّة من أدّى دين غيره دون إذنه فلا يحقّ له الرّجوع بما أدّى، لأنّ الكفالة بغير أمر المدين تبرّع بقضاء دين الغير فلا يحتمل الرّجوع. أمّا عند المالكيّة فإنّه يثبت له حقّ الرّجوع لصحّة الضّمان والأداء دون إذن المدين، وهذا إذا ضمن أو أدّى على سبيل الرّفق بالمدين، أمّا إن كان الغرض إضراره بسوء طلبه وحبسه لعداوةٍ بينهما فلا رجوع له على المدين، وإنّما يرجع على ربّ الدّين الّذي أدّاه له. وفصّل الشّافعيّة فقالوا: إن انتفى الإذن في الأداء والضّمان فلا رجوع له، لأنّه متبرّع في هذه الحالة، ولأنّه لو كان له رجوع لما صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الميّت بضمان أبي قتادة. وإن أذن المدين في الضّمان فقط وسكت عن الأداء رجع في الأصحّ لأنّه أذن في سبب الأداء، والثّاني: لا يرجع لانتفاء الإذن في الأداء. 21 - ويستثنى من أحقّيّة الرّجوع - إذا وجد الإذن في الضّمان - ما إذا ثبت الضّمان ببيّنةٍ وهو منكر، كأن ادّعى على زيدٍ وغائبٍ ألفاً، وأنّ كلاً منهما ضمن ما على الآخر بإذنه، فأنكر زيد فأقام المدّعي بيّنةً وغرّمه، لم يرجع زيد على الغائب بالنّصف، لكونه مكذّباً بالبيّنة، فهو مظلوم بزعمه، فلا يرجع على غير ظالمه، وكذا لو قال الضّامن بالإذن: للّه عليّ أن أؤدّي دين فلانٍ ولا أرجع به، فإنّه إذا أدّى لا يرجع. وإن أذن المدين في الأداء وانتفى الإذن في الضّمان فضمن بغير إذنٍ وأدّى بالإذن، فلا رجوع له في الأصحّ، لأنّ وجوب الأداء بسبب الضّمان ولم يأذن فيه، ومقابل الأصحّ: يرجع، لأنّه أسقط الدّين عن الأصيل بإذنه، ويستثنى من ذلك ما لو أدّى وشرط الرّجوع فإنّه يرجع. أمّا الحنابلة فقد بنوا ثبوت الحقّ في الرّجوع وعدمه على النّيّة. قالوا: إن قضى الضّامن الدّين ولم ينو رجوعاً على مضمونٍ عنه بما قضاه لم يرجع، لأنّه متطوّع سواء ضمن بإذنه أم لا، وإن نوى الرّجوع رجع، سواء أكان الضّمان أو القضاء بإذن المضمون عنه أم بدون إذنه، لأنّه قضاء مبرّئ من دينٍ واجبٍ فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، ولو لم يأذن في قضاءٍ ولا ضمانٍ، وأمّا قضاء عليٍّ وأبي قتادة فكان تبرّعاً، لقصد براءة ذمّة المدين المتوفّى ليصلّي عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والكلام فيمن نوى الرّجوع لا فيمن تبرّع. هكذا جاء في كشّاف القناع وشرح منتهى الإرادات، لكن ابن قدامة ذكر روايةً في أنّه لو ضمن بغير إذنٍ وقضى بغير إذنٍ أيضاً فإنّه لا يرجع بشيءٍ ولو نوى الرّجوع، بدليل حديث عليٍّ وأبي قتادة فإنّهما لو كانا يستحقّان الرّجوع على الميّت صار الدّين لهما فكانت ذمّة الميّت مشغولةً بدينهما كاشتغالها بدين المضمون عنه، ولم يصلّ عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنّه تبرّع بذلك فأشبه ما لو علف دوابّه بغير أمره. وقال الحنابلة أيضاً: إن قضى الدّين ولم ينو رجوعاً ولا تبرّعاً بل ذهل عن قصده الرّجوع وعدمه لم يرجع كالمتبرّع لعدم قصده الرّجوع. 22 - هذا بالنّسبة لدين الآدميّ، أمّا دين اللّه تعالى كالزّكاة والكفّارة فإنّ من أدّى زكاة غيره دون إذنه فلا يجزئ ما أدّاه عن الزّكاة لاشتراط النّيّة فيها وهذا باتّفاقٍ، ولا رجوع له بما أدّى، إلاّ أنّ الزّكاة إن أخرجها أحد بغير علم من هي عليه، أو غير إذنه في ذلك، فإن كان غير الإمام فمقتضى قول أصحابنا في الأضحيّة يذبحها غير ربّها بغير علمه وإذنه إن كان الفاعل لذلك صديقه ومن شأنه أن يفعل ذلك له بغير إذنه، لأنّه بمنزلة نفسه عنده لتمكّن الصّداقة بينهما، أجزأته الأضحيّة إن كان مخرج الزّكاة من هذا القبيل، فمقتضى قولهم في الأضحيّة أنّ الزّكاة تجزئه، لأنّ كليهما عبادة مأمور بها مفتقرة للنّيّة وإن كان ليس من هذا القبيل لا تجزئ عن ربّها لافتقارها للنّيّة على الصّحيح من المذهب لأجل شائبة العبادة. وإن أمر شخص غيره بأداء الزّكاة عنه أجزأت، وكان للمؤدّي حقّ الرّجوع باتّفاقٍ، إلاّ أنّ الحنفيّة اشترطوا ضمان الآمر بأن يقول: على أنّي ضامن، لأنّه في باب الزّكاة والكفّارة يثبت للقابض ملك غير مضمونٍ بالمثل، حتّى لو ظهر أن لا زكاة عليه لا يستردّ من الفقير ما قبض، فيثبت للآمر ملك مثل ذلك، فلا ضمان عليه إلاّ بالشّرط. قال في فتح القدير: والحاصل أنّ الأمر في الكفالة تضمّن طلب القرض إذا ذكر لفظة " عنّي" وفي قضاء الزّكاة والكفّارة طلب اتّهابٍ، ولو ذكر لفظة " عنّي ».
23 - من أسباب الرّجوع من المكان أو إليه النّزول على حكم الشّرع، ويذكر الفقهاء ذلك في أماكن متفرّقةٍ ومن ذلك. أ - رجوع من جاوز الميقات المكانيّ للحجّ دون إحرامٍ: 24 - للحجّ والعمرة ميقات مكانيّ حدّده الشّرع، والإحرام من الميقات المحدّد لمريد أحد النّسكين واجب على من مرّ به، ومن جاوز الميقات غير محرمٍ وجب عليه أن يرجع إليه ليحرم منه إن أمكنه، فإن رجع إليه فأحرم منه فلا دم عليه كما لو لم يتجاوزه، وهذا باتّفاقٍ، لأنّه أحرم من الميقات الّذي أمر بالإحرام منه. وإن تجاوز الميقات وأحرم فعليه دم، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع، وهذا عند المالكيّة والحنابلة، والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه إن رجع قبل أن يتلبّس بنسكٍ سقط عنه الدّم، وهو قول أبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة، وقال أبو حنيفة: إن عاد فلبّى سقط عنه الدّم، وإن لم يلبّ لم يسقط لما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه قال للّذي أحرم بعد الميقات: ارجع إلى الميقات فلبّ وإلاّ فلا حجّ لك، فأوجب التّلبية من الميقات فلزم اعتبارها، وعند زفر لا يسقط الدّم، لبّى أو لم يلبّ، لأنّ وجوب الدّم في هذه الجناية بمجاوزة الميقات من غير إحرامٍ فلا تنعدم الجناية بعوده فلا يسقط الدّم، وإن رجع بعد ما تلبّس بأفعال الحجّ من طوافٍ وغيره فعليه دم باتّفاقٍ. ب - رجوع المعتدّة إلى منزل العدّة: 25 - يختلف الفقهاء فيمن خرجت لحجٍّ أو زيارةٍ ثمّ طرأ عليها موجب العدّة من طلاقٍ أو موت زوجها هل يجب عليها الرّجوع إلى منزلها لتعتدّ فيه لوجوب ذلك شرعاً عليها حيث نهى اللّه تعالى المعتدّات عن الخروج بقوله عزّ وجلّ: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} أم لا يجب عليها الرّجوع ؟ قال الحنفيّة: من لزمتها عدّة طلاقٍ بائنٍ أو عدّة وفاةٍ بعدما خرجت للحجّ فإن كان إلى منزلها أقلّ من مدّة سفرٍ وإلى مكّة مدّة سفرٍ فإنّها ترجع إلى منزلها لتعتدّ فيه، لأنّه ليس فيه إنشاء سفرٍ فصار كأنّها في بلدها. وإن كان إلى مكّة أقلّ من مدّة سفرٍ وإلى منزلها مدّة سفرٍ مضت إلى مكّة، لأنّها لا تحتاج إلى المحرم في أقلّ من مدّة السّفر، وإن كان من الجانبين أقلّ من مدّة سفرٍ فهي بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت إلى منزلها، والرّجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزّوجيّة، وهو أوجه. نقل هذا ابن عابدين عن الكافي للحاكم، وفي العناية والنّهاية يتعيّن الرّجوع، لأنّها إذا رجعت صارت مقيمةً، وإذا مضت كانت مسافرةً. وإن كان من الجانبين مدّة سفرٍ، فإن كانت في مصر فليس لها أن تخرج حتّى تنقضي عدّتها في قول أبي حنيفة وإن وجدت محرماً. وعند أبي يوسف ومحمّدٍ لها أن تخرج إذا وجدت محرماً، وليس لها أن تخرج بلا محرمٍ بلا خلافٍ. وإن كان ذلك في المفازة أو في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها ومالها فلها أن تمضي فتدخل موضع الأمن، ثمّ لا تخرج منه حتّى تنقضي عدّتها في قول أبي حنيفة، سواء وجدت محرماً أم لم تجد. وعندهما تخرج إذا وجدت محرماً. وقال المالكيّة: على المعتدّة أن تمضي مدّة العدّة في بيتها الّذي كانت فيه قبل طروء العدّة، ولو كانت قد نقلها الزّوج قبل الموت أو الطّلاق إلى مكان آخر، واتّهم أنّه نقلها ليسقط سكناها فإنّه يجب عليها الرّجوع، وكذلك لو كانت مقيمةً بغير مسكنها وقت الموت أو الطّلاق فيجب عليها الرّجوع لمنزلها لتعتدّ فيه. ولو خرجت لحجّ الصّرورة مع زوجها ومات الزّوج أو طلّقها بعد سيرها ثلاثة أيّامٍ وجب عليها أن ترجع لتعتدّ بمنزلها إن بقي شيء من العدّة بعد رجوعها ولو يوماً واحداً. لكن الرّجوع مقيّد بما إذا كانت لم تحرم بالحجّ، فإن كانت دخلت في الإحرام ولو في أوّل يومٍ من سفرها فلا ترجع. ولو خرجت في حجّ التّطوّع أو لزيارةٍ أو غير ذلك من القرب فيجب عليها الرّجوع ولو وصلت إلى المكان الّذي تريده ولو بعد إقامتها نحو ستّة أشهرٍ. ولو خرجت مع زوجها للإقامة في مكان آخر بعد رفض السّكنى في المسكن الأوّل فطلقت أو مات زوجها فهي بالخيار في الاعتداد بأيّ مكان شاءت. وقال الشّافعيّة: لو انتقلت الزّوجة بإذن الزّوج إلى مسكنٍ آخر في البلد فوجبت العدّة في أثناء الطّريق قبل وصولها إلى المسكن الآخر فلا ترجع إلى مسكنها الأوّل، بل تعتدّ في الثّاني على ما نصّ عليه في الأمّ لأنّها مأمورة بالقيام فيه، وقيل: تعتدّ في الأوّل، لأنّ موجب العدّة لم يحصل وقت الفراق في الثّاني، وقيل: تتخيّر لتعلّقها بكلٍّ منهما. أمّا إذا وجبت العدّة بعد وصولها للثّاني اعتدّت فيه جزماً. وإن كان الانتقال بغير إذن الزّوج ووجبت العدّة رجعت إلى الأوّل ولو بعد وصولها للثّاني لعصيانها بذلك، إلاّ إذا أذن لها بعد الوصول. وإن أذن الزّوج لزوجته في سفر حجٍّ، أو عمرةٍ، أو تجارةٍ، أو استحلال مظلمةٍ، أو نحو ذلك كسفرٍ لحاجتها، ثمّ وجبت عليها العدّة، فإن كانت لم تفارق عمران البلد فإنّه يجب عليها الرّجوع في الأصحّ، لأنّها لم تشرع في السّفر. وإن فارقت عمران البلد ووجبت العدّة في أثناء الطّريق فلها الرّجوع ولها المضيّ في السّفر، لأنّ في قطعها عن السّفر مشقّةً، لا سيّما إذا بعدت عن البلد، أو خافت الانقطاع عن الرّفقة، والأفضل الرّجوع. وإذا اختارت المضيّ ومضت لمقصدها أو بلغته فإنّها ترجع بعد قضاء حاجتها دون تقيّدٍ بمدّة السّفر وهي ثلاثة أيّامٍ. ويجب الرّجوع بعد قضاء الحاجة لتعتدّ ما بقي من العدّة في مسكنها. وإذا سافرت لنزهةٍ أو زيارةٍ أو سافر بها الزّوج لحاجته ووجبت العدّة فلا تزيد على مدّة إقامة المسافرين ثمّ تعود. وإن قدّر لها الزّوج مدّةً في نقلةٍ أو سفر حاجةٍ أو في غير ذلك كاعتكافٍ، استوفتها وعادت لتمام العدّة. ولو أحرمت بحجٍّ بإذن زوجها أو بغير إذنه ثمّ طلّقها أو مات، فإن خافت فوات الحجّ لضيق الوقت وجب عليها الخروج معتدّةً لتقدّم الإحرام، وإن لم تخف فوات الحجّ لسعة الوقت جاز لها الخروج إلى ذلك لما في تعيين الصّبر من مشقّة المصابرة على الإحرام. وقال الحنابلة: من سافرت بإذن زوجها أو معه لنقلةٍ من بلدٍ إلى آخر فمات قبل مفارقة البنيان رجعت واعتدّت بمنزلها، لأنّها في حكم المقيمة، ولو سافرت لغير نقلةٍ كتجارةٍ وزيارةٍ ولو لحجٍّ ولم تحرم ومات زوجها قبل مسافة القصر رجعت واعتدّت بمنزلها، لما روى سعيد بن منصورٍ بإسناده عن سعيد بن المسيّب قال: توفّي أزواج نساءٍ وهنّ حاجّات أو معتمرات فردّهنّ عمر من ذي الحليفة حتّى يعتددن في بيوتهنّ ولأنّها أمكنها أن تعتدّ في منزلها قبل أن تبعد فلزمها كما لو لم تفارق البنيان. وإن مات زوجها بعد مفارقة البنيان، فإن كان سفرها لنقلةٍ، أو بعد مسافة القصر إن كان لغير نقلةٍ، فإنّها تخيّر بين الرّجوع فتعتدّ في منزلها وبين المضيّ إلى مقصدها، لأنّ كلا البلدين سواء. وحيث مضت أقامت لقضاء حاجتها، فإن كان لنزهةٍ أو زيارةٍ فإن كان الزّوج قدّر لها مدّة إقامتها أقامتها، وإلاّ أقامت ثلاثاً، فإذا مضت المدّة أو قضت حاجتها، فإن كان خوف ونحوه أتمّت العدّة بمكانها، وكذا إن كانت لا تصل إلى منزلها إلاّ بعد انقضاء عدّتها، وإلاّ لزمها العود لتتمّ العدّة بمنزلها. ومن أحرمت بالحجّ بإذن الزّوج ثمّ مات الزّوج، فإن كانت سارت مسافةً أقلّ من مسافة القصر، وأمكن الجمع بين اعتدادها بمنزلها وبين الحجّ بأن اتّسع الوقت لهما، عادت لمنزلها فاعتدّت به، وإن لم يمكنها الجمع، بأن كان الوقت لا يتّسع لهما، قدّمت الحجّ إن كانت بعدت عن بلدها بأن كانت سافرت مسافة قصرٍ، وإن لم تبعد مسافة قصرٍ وقد أحرمت قدّمت العدّة ورجعت وتتحلّل بعمرةٍ. ج - الرّجوع عند عدم الإذن: 26 - لا يجوز لإنسانٍ دخول بيت غيره إلاّ بإذنه، مالكاً كان من بالمنزل، أو مستأجراً، أو مستعيراً، إذا كان الدّاخل أجنبيّاً أو قريباً غير محرمٍ، وسواء أكان الباب مغلقاً أو مفتوحاً. والواجب الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن له بالدّخول دخل، وإن لم يؤذن له أو قيل له: ارجع، رجع وجوباً دون إلحاحٍ، والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي إذا ردّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده فرجوعكم أزكى لكم وأطهر. د - الرّجوع من السّفر لحقّ الزّوجة: 27 - للزّوجة حقّ في الوطء في الجملة، وفي مؤانسة زوجها لها، ولذلك يستحبّ لمن كان مسافراً التّعجيل بالرّجوع إلى أهله بعد قضاء حاجته، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: » السّفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجّل إلى أهله « وفي روايةٍ: » فليعجّل الرّجوع إلى أهله «. قال ابن حجرٍ: وفي الحديث: كراهة التّغرّب عن الأهل لغير حاجةٍ، واستحباب استعجال الرّجوع، ولا سيّما من يخشى عليهم الضّيعة بالغيبة، ولذلك يكره أن يغيب الرّجل في سفره أكثر من أربعة أشهرٍ من غير عذرٍ " أي أكثر من مدّة الإيلاء " ويؤيّد ذلك أنّ عمر رضي الله عنه سأل حفصة: كم تصبر المرأة عن الرّجل ؟ فقالت: أربعة أشهرٍ، فأمر أمراء الأجناد أن لا يتخلّف المتزوّج عن أهله أكثر منها عنها، قال ابن عابدين: ولو لم يكن في هذه المدّة زيادة مضارّةٍ بها لما شرع اللّه تعالى الفراق بالإيلاء منها، وفي روايةٍ أنّ حفصةً قالت: خمسة أشهرٍ أو ستّة أشهرٍ، وأنّ عمر وقّت للنّاس في مغازيهم ستّة أشهرٍ يرجعون بعدها. هـ – الرّجوع عند وجود المنكر: 28 – وجود المنكر في أيّ مكان سبب من أسباب الرّجوع عنه إذا لم يقدر على إزالته. فمن دعي إلى وليمةٍ فعليه الإجابة إذا لم يكن فيها منكر كخمرٍ ونحوه من أنواع المعاصي، فإن كان يمكنه الإنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور، وإن لم يقدر على الإنكار لا يلزمه الحضور، فإن لم يعلم بوجود المنكر حتّى حضر أزاله، فإن لم يقدر رجع، وقيل: يصبر مع الإنكار بقلبه، إلاّ إذا كان إماماً يقتدى به فإنّه ينصرف. وهذا في الجملة، وينظر التّفصيل في مصطلح: (منكر، دعوة).
29 - يمتنع الرّجوع لأسبابٍ متعدّدةٍ منها: أ - حكم الشّرع: 30 - بعض التّصرّفات الّتي تتمّ لا يجوز الرّجوع فيها نزولاً على حكم الشّرع، وذلك كالصّدقة، فمن تصدّق بصدقةٍ لا يجوز له أن يرجع فيها، لأنّ الصّدقة لإرادة الثّواب من اللّه عزّ وجلّ. وقد قال عمر رضي الله عنه: من وهب هبةً على وجه الصّدقة فإنّه لا يرجع فيها، وهذا في الجملة، إذ الرّأي الرّاجح عند الشّافعيّة أنّ صدقة التّطوّع على الولد يجوز الرّجوع فيها. وكذلك لا يجوز الرّجوع في الهبة لغير الولد عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة - لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » لا يحلّ للرّجل أن يعطي عطيّةً ثمّ يرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده «. وعند الحنفيّة لا يجوز الرّجوع في الهبة لذي الرّحم المحرم، ولا في هبة أحد الزّوجين للآخر، واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » الرّجل أحقّ بهبته ما لم يثب منها « أي لم يعوّض، وصلة الرّحم عوض معنًى ; لأنّ التّواصل سبب التّناصر والتّعاون في الدّنيا، فيكون وسيلةً إلى استيفاء النّصرة، وسبب الثّواب في الدّار الآخرة، فكان أقوى من المال، وأمّا امتناع الرّجوع بالنّسبة لهبة أحد الزّوجين للآخر، فلأنّ صلة الزّوجيّة تجري مجرى صلة القرابة الكاملة، بدليل أنّه يتعلّق بها حقّ التّوارث في جميع الأحوال. وكذلك يمتنع الرّجوع في الهبة إلى الفقير بعد قبضها، لأنّ الهبة إلى الفقير صدقة، لأنّه يطلب بها الثّواب كالصّدقة ولا رجوع في الصّدقة على الفقير بعد قبضها لحصول الثّواب الّذي هو في معنى العوض بوعد اللّه تعالى. والوقف إذا تمّ ولزم لا يجوز الرّجوع فيه لأنّه من الصّدقة، وقد روى عبد اللّه بن عمر قال: » أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول اللّه، إنّي أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قطّ أنفس عندي منه فما تأمر به ؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدّقت بها قال: فتصدّق بها عمر غير أنّه لا يباع ولا يوهب ولا يورث «. انظر: مصطلحات: (صدقة، وقف، هبة) ب - العقود الّلازمة: 31 - العقود الّلازمة كالبيع والإجارة إذا تمّت بالإيجاب والقبول، وخلت من الخيارات لا يجوز الرّجوع فيها من أحد الطّرفين - إلاّ برضاهما معاً كما في الإقالة - وذلك أنّ العقد إذا لزم وتمّ لا يقبل الفسخ من أحد الطّرفين بلا موجبٍ، لأنّها أوجبت حقّاً لازماً أو ملكاً لازماً للغير، وقد قال عمر رضي الله عنه: البيع صفقة أو خيار. وينظر تفصيل ذلك في موضعه من (بيع، إجارة). ج - تعذّر الرّجوع: 32 - تعذّر الرّجوع فيما يجوز الرّجوع فيه قد يمنع حقّ الرّجوع ويسقطه. ومن ذلك تعذّر الرّجوع في الهبة الّتي يجوز الرّجوع فيها، وذلك كخروج الموهوب من ملك الواهب، وموت الواهب أو الموهوب له. والزّيادة المتّصلة، على ما يقول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، أو المنفصلة كما يقول الشّافعيّة. أو كان الابن تزوّج لأجل الهبة كما يقول المالكيّة، وهذا في الجملة. وينظر تفصيل ذلك في: (هبة). د - الإسقاط: 33 - من المعلوم أنّ السّاقط يصبح كالمعدوم لا سبيل إلى إعادته إلاّ بسببٍ جديدٍ يصير مثله لا عينه. ومن الحقوق ما يمتنع الرّجوع فيها بعد إسقاطها. ومن ذلك: إذا أبرأ الدّائن المدين فقد سقط الدّين ولا يجوز الرّجوع إلى مطالبة المدين إلاّ إذا وجد سبب جديد، ومن ذلك حقّ القصاص لو عفي عنه فقد سقط وسلمت نفس القاتل ولا تستباح إلاّ بجنايةٍ أخرى، وكمن أسقط حقّه في الشّفعة فلا يجوز الرّجوع إلى المطالبة بها بعد ذلك، لأنّ الحقّ قد بطل فلا يعود إلاّ بسببٍ جديدٍ، وكذلك الرّضا بالعيب في المبيع والتّصرّف في زمن الخيار فإنّ ذلك يسقط حقّ المشتري ولا يجوز له الرّجوع بالعيب أو بفسخ البيع. وذلك في الجملة وينظر تفصيله في: (إسقاط، شفعة، قصاص، خيار).
34 - الرّجوع قد يكون بالقول كقول الموصي: رجعت في الوصيّة أو فسختها، أو رددتها، أو أبطلتها، أو نقضتها. ومثل ذلك في الهبة، وغير ذلك من العقود الّتي يجوز الرّجوع فيها. وكقول الرّاجع عن الإقرار بالزّنى: كذبت، أو رجعت عمّا أقررت به، أو ما زنيت. وقد يكون الرّجوع بالتّصرّف كأن يفعل في الموصى به فعلاً يستدلّ به على الرّجوع، فلو أنّ الموصي فعل في الموصى به فعلاً لو فعله في المغصوب لانقطع به ملك المالك كان رجوعاً كما لو باعه أو وهبه، وكما إذا أوصى بثوبٍ ثمّ قطعه وخاطه قميصاً، أو بقطنٍ ثمّ غزله، أو بحديدةٍ ثمّ صنع منها إناءً، لأنّ هذه الأفعال لمّا أوجبت حكم الثّابت في المحلّ وهو الملك فلأن توجب بطلان مجرّد كلامٍ من غير حكمٍ أصلاً أولى، ووجه الدّلالة أنّ كلّ واحدٍ من هذه الأفعال تبدّل العين وتصيّرها شيئاً آخر اسماً ومعنىً فكان استهلاكاً من حيث المعنى، فكان دليل الرّجوع. لكن الفقهاء اختلفوا في الجحود أو الإنكار هل يكون رجوعاً ؟. فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الجحد لا يكون رجوعاً. وعند الحنفيّة روايتان، جاء في بدائع الصّنائع: لو أوصى ثمّ جحد الوصيّة ذكر في الأصل أنّه يكون رجوعاً ولم يذكر خلافاً، لأنّ معنى الرّجوع عن الوصيّة هو فسخها وإبطالها، وفسخ العقد كلام يدلّ على عدم الرّضا بالعقد السّابق وبثبوت حكمه، والجحود في معناه، لأنّ الجاحد لتصرّفٍ من التّصرّفات غير راضٍ به وبثبوت حكمه، فيتحقّق فيه معنى الفسخ، فحصل معنى الرّجوع، وقال أبو يوسف في رجلٍ أوصى بوصيّةٍ ثمّ عرضت عليه من الغد فقال: لا أعرف هذه الوصيّة، قال: هذا رجوع منه، وكذلك لو قال: لم أوص بهذه الوصيّة. وقال محمّد: لا يكون الجحد رجوعاً، وذكر في الجامع: إذا أوصى بثلث ماله لرجلٍ ثمّ قال بعد ذلك: اشهدوا أنّي لم أوص لفلانٍ بقليلٍ ولا كثيرٍ لم يكن هذا رجوعاً منه عن وصيّة فلانٍ، ولم يذكر خلافاً، لأنّ الرّجوع عن الوصيّة يستدعي سابقيّة وجود الوصيّة، والجحود إنكار وجودها أصلاً، فلا يتحقّق فيه معنى الرّجوع، فلا يمكن أن يجعل رجوعاً. قال الكاسانيّ: فيجوز أن يكون ما ذكر في الأصل قول أبي يوسف وما ذكر في الجامع قول محمّدٍ، ويجوز أن يكون في المسألة روايتان. وممّا يعتبر رجوعاً عن الإقرار بالزّنى هروب الزّاني ولو في أثناء إقامة الحدّ، لأنّ الهرب دليل الرّجوع، وقد روي أنّه » لمّا هرب ماعز ذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: هلاّ تركتموه وجئتموني به « وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وأمّا عند الشّافعيّة فلا يعتبر الهرب رجوعاً، إلاّ أن يصرّح بالرّجوع، والهرب فقط لا يعتبر رجوعاً، ولا يسقط عنه الحدّ، لأنّه قد صرّح بالإقرار ولم يصرّح بالرّجوع، ولكن يكف عنه فإن رجع فذاك، وإلاّ حدّ.
35 - ارتجاع الزّوجة المطلّقة يسمّى رجعةً، وهي لغةً - بفتح الرّاء - المرّة من الرّجوع، وشرعاً: ردّ المرأة إلى النّكاح من طلاقٍ غير بائنٍ في العدّة على وجهٍ مخصوصٍ، وهي مشروعة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي رجعتهنّ، ولمّا طلّق النّبيّ حفصة رضي الله عنها جاءه جبريل فقال له: » راجع حفصة فإنّها صوّامة قوّامة فراجعها «. ولأنّ الحاجة تمسّ إلى الرّجعة، لأنّ الإنسان قد يطلّق ثمّ يندم فيحتاج إلى التّدارك، والرّجعة تكون بالقول باتّفاقٍ كقول الزّوج: راجعت زوجتي، أو ارتجعتها، أو رددتها. وتكون بالوطء عند الجمهور " الحنفيّة والمالكيّة ورواية عند الحنابلة "، وتكون بالقبلة واللّمس بشهوةٍ، والنّظر إلى الفرج عند الحنفيّة والمالكيّة، وفي وجهٍ عند الحنابلة اختاره أبو الخطّاب لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سمّى الرّجعة ردّاً، والرّدّ لا يختصّ بالقول كردّ المغصوب وردّ الوديعة. وعند الشّافعيّة والحنابلة - في الرّواية الأخرى - لا تحصل الرّجعة بالفعل، لأنّ الرّجعة استباحة بضعٍ مقصودٍ أمر بالإشهاد فيه فلم يحصل من القادر بغير قولٍ كالنّكاح. وهذا في الجملة. وفي بيان أركان الرّجعة وشروطها ينظر: (رجعة).
36 - للرّجوع آثار متعدّدة تختلف باختلاف المرجوع عنه وإليه ومن ذلك ما يأتي: أ - أثر الرّجوع عن الشّهادة: 37 - الرّجوع عن الشّهادة إمّا أن يكون قبل الحكم، وإمّا أن يكون بعد الحكم وقبل استيفاء المحكوم به، وإمّا أن يكون بعد الاستيفاء. فإن كان الرّجوع قبل الحكم امتنع الحكم بشهادة من رجع عن شهادته للتّناقض، ولأنّ الحاكم لا يدري، أصدق في الأوّل أم في الثّاني ؟ فينتفي ظنّ الصّدق، وكذبه ثابت لا محالة، إمّا في الشّهادة أو الرّجوع، ولا ضمان على الشّهود في مالٍ لعدم الإتلاف، لكن لو كان رجوعهم عن شهادتهم في زنى حدّوا حدّ القذف وهذا باتّفاقٍ. وإن كان الرّجوع بعد الحكم وقبل استيفاء المحكوم به، فإن كان الحكم بمالٍ لا ينقض الحكم، ويضمن الشّهود المال، وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وشمس الأئمّة من الحنفيّة، وفرّق شيخ الإسلام خواهر زاده من الحنفيّة فقال: إن كان المال عيناً ضمن الشّهود، سواء قبضه المدّعي أم لم يقبضه، وإن كان ديناً لا يضمن الشّهود إلاّ إذا قبضه المدّعي وهو المشهود له فإنّهما يضمنان للمشهود عليه. وإن كان الرّجوع بعد الحكم وقبل الاستيفاء في غير المال بأن كان في قصاصٍ أو حدٍّ، فلا تستوفى العقوبة، لأنّها تسقط بالشّبهة، والرّجوع شبهة، وهذا عند الجميع إلاّ في قولٍ لابن القاسم من المالكيّة، لكن قيل: إنّه رجع عنه واستحسن عدم الاستيفاء. وقال الحنابلة: يجب دية عمدٍ للمشهود له، لأنّ الواجب بالعمد أحد شيئين، وقد سقط أحدهما فتعيّن الآخر، ويرجع المشهود عليه بما غرمه من الدّية على الشّهود، وهو ما قال به بعض المالكيّة أيضاً. وإن كان الرّجوع بعد الحكم والاستيفاء مضى الحكم ولا ينقض، وضمن الشّهود الدّية في القصاص والرّجم، ويحدّون حدّ القذف في الشّهادة بالزّنى وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة غير أشهب. وقال الشّافعيّة والحنابلة وأشهب: عليهم القصاص إن قالوا تعمّدنا، أو دية مغلّظة كما يقول الشّافعيّة، وإن قالوا أخطأنا فعليهم دية مخفّفة. وهذا في الجملة، وفي الموضوع تفصيلات تنظر في (شهادة). ب - أثر الرّجوع عن الإقرار: 38 - من آثار الرّجوع عن الإقرار سقوط الحدّ، فمن أقرّ بما يوجب حدّاً وهو من حقوق اللّه تعالى الّتي تسقط بالشّبهة كالزّنى والشّرب، ثمّ رجع عن إقراره سقط عنه الحدّ، لأنّ رجوعه يعتبر شبهةً دارئةً للحدّ، لاحتمال صدقه واحتمال كذبه، فيورث شبهةً في ظهور الحدّ، والحدود لا تستوفى مع الشّبهات، وحين أقرّ ماعز بالزّنى لقّنّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم الرّجوع، فلو لم يكن الحدّ محتملاً للسّقوط بالرّجوع ما كان للتّلقين معنىً، وهذا عند جمهور الفقهاء، وقال الحسن وسعيد بن جبيرٍ وابن أبي ليلى وأبو ثورٍ: يقام عليه الحدّ، لأنّ ماعزاً هرب فقتلوه، ولو قبل رجوعه للزمتهم الدّية، ولأنّه حقّ وجب بإقراره، فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق. أمّا حدّ القذف والقصاص وحقوق اللّه تعالى الّتي لا تسقط بالشّبهة كالزّكاة والكفّارات، وحقوق العباد من الأموال وغيرها فلا يقبل الرّجوع فيها. وهذا في الجملة مع التّفصيل الّذي ذكره بعض الفقهاء في حقوق العباد فيما إذا كان هناك عذر أو لم يكن. وقد سبق تفصيل ذلك في بحث: (إقرار). ج - أثر الرّجوع عن الإسلام وإليه: 39 - من آثار الرّجوع عن الإسلام وإليه إهدار الدّم أو عصمته، فمن كان مسلماً ثمّ رجع عن دين الإسلام اعتبر مرتدّاً فالرّدّة هي الرّجوع عن الإسلام، ويستتاب المرتدّ ثلاثاً، فإن لم يتب أهدر دمه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » من بدّل دينه فاقتلوه «. وإذا تاب المرتدّ ورجع إلى الإسلام فقد عصم دمه وماله، ومثله المحارب الّذي يرجع إلى الإسلام، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه فمن قال لا إله إلاّ اللّه فقد عصم منّي نفسه وماله إلاّ بحقّها وحسابه على اللّه «. وينظر تفصيل ذلك في: (ردّة - جهاد).
انظر: أرحام
|